تفصح المسيرة التطوّريّة لأمّ الفحم خلال القرن العشرين عن ثلاث مراحل تعاقبت على هذه القرية /المدينة، هي على النحو التّالي:
1. المرحلة التركيّة- البريطانيّة.
2. المرحلة الصهيونيّة الأولى.
3. المرحلة الصهيونيّة الثانية.
تتميّز المرحلة الأولى بنزعة انفتاحيّة تجسّدت على الأرض بالتعايش بين أغلبيّة مسلمة وأقلّيّة مسيحيّة، من جانب، واعتماد منظومة أخلاقيّة واجتماعيّة فلّاحيّة، من جانب آخر. أمّا المرحلة الثانية، فقد شهدت تحوّلًا من قرية فلّاحيّة إلى أخرى عمّاليّة مع الإبقاء على المرجعيّة الأخلاقيّة الفلّاحيّة وتبنّي بعض الأخلاق والقيم الوطنيّة. أمّا بخصوص المرحلة الثالثة، فتتميّز بتحوّل القرية إلى مدينة عمّاليّة كبيرة، طابعها العامّ استهلاكيّ، فيما مرجعيّتها الأخلاقيّة تمثّل قطيعة حادّة مع ما سبق، وذلك بعد تبنّيها منظومة أخلاقيّة مستمَدّة من فكر الحركة الإسلاميّة.
ولو أخذنا هذه المرحلة الأخيرة، لوجدنا قوّتين كبيرتين تتنازعان السيطرة على المدينة؛ السلطة الإسرائيلية التي تسيطر على جسدها، والحركة الإسلاميّة التي تسيطر على روحها. غير أنّ ذلك لا ينفي تجلّي المادّيّ في الروحيّ حينما تسعى السلطة الإسرائيليّة إلى احتواء وعي المواطنين من خلال هيمنتها المطلقة على مناهج التدريس المدرسيّة، ومن خلال تفصيل هذه المناهج على مقاساتها الأمنيّة والأيديولوجيّة، أو من خلال إكسابها عادات وسلوكيّات ليست هي من صميم الهُويّة الفلسطينيّة. كذلك لا يمنع هذا من تجلّي الروحانيّ في المادّيّ من خلال السعي الدؤوب لدى الحركة الإسلاميّة إلى السيطرة على الحيّز العامّ في المدينة وإشباعه بالرموز الدينيّة المستمَدّة من مرجعيّتها الأيديولوجيّة. وهذا ليس بدعًا، فمنذ صعودها على الساحة الفحماويّة حتّى أيّامنا هذه، سعت الحركة الإسلاميّة إلى تعزيز مكانها من خلال بناء جهاز معرفيّ متطوّر ومتعدّد الغايات يشتمل على كلّ ما يلزم من أجل صياغة هُويّة جديدة: روضات إسلاميّة؛ مدرسة أهليّة؛ كليّة شريعة؛ مركز أبحاث؛ صحف ومجلّات (مرئيّة ومطبوعة)؛ مطابع؛ جمعيّات أهليّة؛ لجان صلح عشائريّة؛ رجال دين ودُعاة؛ فرق إنشاد؛ مساجد؛ مهرجان سنويّ للأقصى... وغير ذلك من الفعّاليّات والمؤسّسات التي مكّنت للحركة في أمّ الفحم وأتاحت لخطابها التغلغل بين الناس والتأثير في وعيهم اليوميّ، وفي ذوقهم الجماليّ، وتكييفهم لمختلف الجوانب المتعلّقة بخطاب هذه الحركة. والحركة الإسلاميّة إذ تضع يدها على الحيّز العامّ، فبغطاء يوفّره خطابها الغيبيّ والمتعالي الذي يسوّغ لها تملُّك هذا الحيّز وتجييره، بل كذلك إعادة صياغته بحيث يغدو متناغمًا مع مفهومها الخاصّ للدين. وهي وإنِ اعترفت بالتفرقة بين الحيّزين، العامّ والخاصّ، فعلى مضض؛ إذ في عُرفها هذه تفرقة بشريّة محضة، لأنّ الناظر إلى الأرض من السماء لا يبصر تفرقة من هذا القبيل، بل يتساوى الخاصّ والعامّ على اعتبار أنّ كليهما ملك للسماء. ومن هذا الباب، يتحوّل المكان بكلّ أثاثه وأشيائه إلى أداة طيّعة لا يُسمح لها إلّا بأن تنطق باسم الدين أو باسم مَن يرافعون عنه. هكذا هو الحال مع غالبيّة شوارع المدينة، والأماكن العامّة، والمدارس، والمؤسّسات، والمساجد وغيرها، الّتي بمرور الوقت تحوّلت إلى نصوص يستهلكها الفحماويّ يوميًّا لتغدو زاده الثقافيّ والروحيّ الذي يقتات عليه.
بَيْدَ أنّ الـمُعاين للجسد المعماريّ للمدينة يلاحظ فوضى عارمة في البناء، وقد تتجلّى هذه الفوضى في انتفاء الذوق الجماليّ العامّ؛ إذ ليس ثمّة أنموذج أو طراز في البناء يعبّر عن هُويّة معماريّة واضحة، بل إنّ ما هو قائم ليس إلّا هويّات فرديّة للبيوت والبنايات تعبّر عن أذواق شخصيّة غالبًا ما تُستجلَب من خارج المدينة، أي من المدن اليهوديّة، أو البلدان العربيّة أو الأوروبيّة. فالهُويّة المعماريّة للمدينة هي خليط من الأذواق والتصاميم المستنسَخة التي تُدمَج في بعض الأحيان مع بعض الملامح المعماريّة الإسلاميّة مؤلِّفةً نمطًا هجينًا غير متآلف العناصر. ولو قارنّا هذا الأسلوب المعماريّ مع ذلك الذي كان معتمدًا قبل قيام إسرائيل، لوجدنا مشهدًا مغايرًا يَـموج بأنماط عمرانيّة كـَ "البيت" وَ "العَقْد" وَ "العلّيّة"، وما شاكل ذلك. ومع أنّ هذه الأنماط كانت تختلف في ما بينها في بعض المزايا، فإنّها تظلّ تعبّر عن ذائقة معماريّة تقليديّة ومتآلفة. فالبناء كان يجري بالتصميم ذاته وبالوسائل عينها، وكلّ من رغب في إنشاء بيت جديد، ما كان عليه إلّا أن ينظر حوله ويستلهم نموذجه ممّا هو قائم بالفعل. أمّا معماريّة المساجد، فهي -على قلّتها- لم تكن مختلفة؛ بَيْدَ أنّ أكثر ما يميّزها هو عدم الإفراط في المساحة وفي الزخرفة. أمّا موادّ البناء الأوّليّة، فكانت بسيطة وفي متناول اليد وتشتمل على الآجرّ، والطّين، والتبن، والأخشاب وغيرها.
بَيْدَ أنّ هذا المشهد المعماريّ بدأ يتبدّل تدريجيًّا بعد قيام إسرائيل وتحوُّل أمّ الفحم إلى قرية عمّاليّة، حيث صار العامل يؤْثِر بناء بيته بالطراز نفسه الذي يقوم هو ببنائه في المدن اليهوديّة، وفي كثير من الأحيان بالتصميم نفسه. وشيئًا فشيئًا بدأت "العقود" وَ "البيوت" بأقواسها وَ "علّيّاتها" تُخْلي مكانها للمنازل الرحبة والمربّعة المبنيّة من موادّ كالحديد والإسمنت والطوب، والتي كانت تصنَّع في المدن اليهوديّة. وحين تحوّل البناء من محلّيّ إلى استعماريّ، بدأت أمّ الفحم تفقد طابعها المعماريّ المحلّيّ لتحلّ مكانه أنماط هجينة غير متّسقة لا تخلو من الفوضى هي السائدة اليوم. يضاف إلى ذلك أنّ تغيُّرًا لافتًا طرأ على هذا المشهد منذ أواسط الثمانينيّات، إذ بدأ العمران في المدينة يكتسي بأزياء إسلاميّة نابعة من تفاعل الحركة الإسلاميّة مع البيئة الفحماويّة، فكان من نتائج هذا التفاعل أن بدأت تظهر أنماط عمرانيّة فيها إبراز للملامح الإسلاميّة المستمَدّة أساسًا من تصميم المساجد، كالمحاريب، والشّبابيك المقوّسة، والأعمدة الطويلة الأسطوانيّة، ناهيك عن الإكثار من الرخام والزخارف الداخليّة والخارجيّة ذات الطابع الدينيّ البارز. وبمرور الوقت، بدأ التصميم الإسلاميّ يَسِمُ المدينةَ ويزحف في كلّ اتّجاهاتها ساعيًا إلى السيطرة على حيّزها العامّ. وقد تتجلّى هذه الهيمنة المعماريّة بمظاهر مختلفة، منها التخلّص من القديم وهدمه، لأنّه يجسّد الهُويّة التقليديّة الفلّاحيّة، كما حدث مع مسجد الإغباريّة القديم الذي هدمته الحركة الإسلاميّة في أواخر الثّمانينيّات دون إذن من أحد (وأعقبه هدم مسجد المحاجنة التاريخيّ من طرف لجنة محلّيّة شعبيّة استلهمت عملها -على ما يبدو- من هدم مسجد الإغباريّة)، ورغم ما كان له من عراقة ومكانة تاريخيّتين، بل كذلك آثرت أن تبني مكانه مسجدًا هو أقرب في معماريّته إلى المجمّع التجاريّ. ومن المصادفات الطريفة أن أُطلِق على هذا المسجد اسم "مجمَّع أبي عبيدة"، وهو اسم يجمع بُعدَيْن مهمّين في فكر الحركة: الضخامة المفْرِطة، والاسم السلَفيّ الذي يثير الحنين إلى "السلَف الصالح"، وبالتالي يحيل إلى الهُويّة الأصوليّة الّتي لا تدّخر الحركة جهدًا في سبيل الدعاية لها. غير أنّ كلّ ذلك لا يعني أنّ المكان، مسجدًا كان أَم غيرَه، يحمل هُويّة خاصّة به أو شخصيّة تميّزه، لأنّ وظيفته الأداتيّة باتت تلغي خصوصيّته المعماريّة مجرِّدة إيّاه من هُويّته الحضاريّة. وقد حدث ذلك حين جرى استنساخ مسجد "أبي عبيدة" في مكان آخر بالتصميم ذاته وبالمواصفات الهندسيّة عينها في حيّ البراغلة، ولكن باسْم آخر هو "صلاح الدين"، لا لسبب إلّا لأنّ النموذج الأوّل قد نجح، فلا مانع إذًا من تكرار هذا النموذج في مكان آخر وباسم مغاير. والمعنى من وراء ذلك هو أنّ الهُويّة المعماريّة للمسجد ليست ذات أهمّيّة، وإنّما هُويّته الأداتيّة والوظيفيّة، وهو ما أفقد المسجدين خصوصيّتهما الفنّيّة. إنّ كلّ من يحظى برؤية المسجدين لا يملك إلّا أن يستغرب، وقد يشطح به الخيال فيظنّ أنّ عفريتًا من "ألف ليلة وليلة" قد نقل مسجد "أبي عبيدة" وطار به من مكان إلى مكان. وأظنّني لا أحيد عن جادة الصواب إذا قلت إنّ عددًا من المساجد في المدينة تحوّلت إلى مؤسّسات رسميّة للحركة كما هو الحال في مسجد "ابن تيميّة" الذي يشمل، بالإضافة إلى المسجد، مركزًا للتحكيم الشرعيّ، وروضات، ومقرًّا للحركة، وغرفًا للضيافة. وكأنّي بالمسجد ملحق بهذه المؤسّسات وليس العكس.
تقودني هذه النقطة إلى الحديث عن مَلْمح الضخامة الذي يميّز المساجد والمآذن التي صارت تناطح السحاب، وهو ملمح لم يكن مأثورًا في الفترات السابقة، والغاية من ورائه هي إبراز طابع المدينة الدينيّ، ولا سيّما بعد أن وضعت الحركة الإسلاميّة يدها على المساجد وصارت تدشّنها أو تعيد بناءها وَفق تقنيّات ورموز تخفي وراءها مَراميها الأيديولوجيّة. أمّا الضخامة فهدفها جليّ وواضح، وهو إثارة الرهبة والفضول لدى غير المتديّنين بغية استمالة أفئدتهم واستقطابهم. بيد أنّ الأمر لا يتوقّف عند المساجد؛ فاختراق الحيّز العامّ ماثل في كلّ مَعْلم وناحية من نواحي المدينة، وربّما من أكثر المعالم لفتًا للنظر بالنسبة للهُويّة الدينيّة هو ذلك الإبريق المعدنيّ الضخم الذي يصادفه الداخل إلى المدينة من جهة اليسار على منحدر مشجّر بالكينا، وهو يُعتبر من الأماكن العامّة الترفيهيّة والمفضّلة في الصيف لدى الكثير من الفحماويّين. فالإبريق يتوسّط حوضًا نُقشت عليه أسماء الله الحسنى، وهو قائم داخل حوض ثانٍ أوسع من الأوّل يُمْلَأ في المعتاد بالماء. ولا يحتاج هذا الإبريق إلى كبير عناء لفهم دلالته؛ فهو إبريق الوضوء، غير أنّ المباشرة في التعبير أفقدت هذا المَعْلم جماليّته، لأنّه متخَم بذاته، يصرّح أكثر ممّا يلمّح، ولا يفسح المجال للتأمّل، وذلك لأنّ الإيديولوجيا لا تطيق الإيحائيّة التي قد تقتل مراميها الصارمة وأوامرها القاطعة والواضحة. وليس بعيدًا عن هذا الموضع، وتحديدًا في الشارع الموازي للشارع الرئيسيّ من أعلى المنحدر، المعروف بشارع "القدس"، تقع المدرسة الأهليّة التي تتوسّطها قبّتان مذهَّبتان، واحدة كبيرة وأخرى صغيرة، تجلس كبراهما على قاعدة مكعّبة الشكل تحاكي شكل الأقصى وتصميمه، وتبغي، في النهاية، إضفاء جوّ دينيّ على التعليم داخل المدرسة. ولعلّ في هذه التجربة المعماريّة محاكاة للمدارس الأهليّة المسيحيّة التي تقام غالبًا إلى جوار كنيسة أو دير.
إنّ النمط المعماريّ السائد اليوم في المدينة هو مزيج من التصاميم التي تتنازع في ما بينها نزاعًا خفيًّا على الاستحواذ على الفضاء الفحماويّ. وفي كلّ الأحوال، فإنّ الهُويّة المعماريّة المحلّيّة مفقودة نظرًا لاستقدامها من الخارج ودمجها مع ملامح أخرى تفتقر، في كثير من الأحيان، إلى الاتّساق الجماليّ. غير أنّ العلاقة مع "الخارج" لا تتوقّف عند هذا الحدّ؛ فالكثير من النشاطات الاجتماعيّة، لا سيّما في العقدين الأخيرين، باتت تقام خارج المدينة، كالأفراح، والسّهر ومناسبات أخرى، مقارنة مع ما سبق، حيث كان العرس حدثًا اجتماعيًّا كبيرًا تشارك فيه الأسرة بقضّها وقضيضها، والأهمّ من كلّ ذلك أنّ العرس كان يُقام في البلدة نفسها لا خارجها، وكانت تتخلّله مشاهد الحمّام والزفّة التي كانت النساء يشاركن فيها، فيما في الخلفيّة تبرز المعالم الريفيّة للبلدة. أمّا اليوم، فغالبيّة المناسبات الاجتماعيّة السعيدة صارت تُقام خارج البلدة، بينما المناسبات الحزينة، كالجنازات وزيارة بيوت العزاء، هي المناسبات الاجتماعيّة الأكثر انتشارًا داخل البلدة.
ولا تتوقّف العلاقة مع "الخارج" عند هذا الحدّ، لأنّ المدينة في ساعات النهار هي أقرب ما يكون إلى معبر يمرّ منه الناس والسيّارات، فغالبيّة الرجال فيها هم من العمّال الذين يسافرون يوميًّا في ساعات الصباح المبكّرة إلى العمل في المدن اليهوديّة، وفي المقابل يدخل المدينةَ يوميًّا عدد لا بأس به من عمّال الضفّة الذين يعملون في ورشات مختلفة فيها. والمفارقة تكمن في أنّ المدينة التي توفّر فرص عمل لعمّال الضفّة باتت عاجزة عن توفير هذه الفرص للعمّال من أبنائها، وذلك بسبب تفاوت مستوى المعيشة بين الضفّة والداخل الفلسطينيّ. أمّا بالنسبة للمشتغلين بالتجارة في المدينة، فغالبيّتهم العظمى من صغار التجّار الذين يعتمدون على المستهلِك المحلّيّ، بينما كبار التجّار يؤْثِرون إنشاء مشاريعهم خارجها، ناهيك عن أنّ فضاء المدينة الضيّق ما عاد يتّسع لطموحاتهم ومشاريعهم. أمّا إذا اختارت قلّة منهم الاستثمار داخل المدينة، فبالتنسيق مع الحركة الإسلاميّة التي تمدّهم بالقوّة الاستهلاكيّة المطلوبة، إذ إنّ جُلّ أصحاب المصالح التجاريّة الكبرى في المدينة يدينون بالولاء للحركة الإسلاميّة ولفكرها، ولا يتوانون عن مؤازرة الحركة بالمال كلّما استدعى الأمر ذلك.
ولو تقصّينا أمر الزراعة في المدينة، لوجدناها معدومة نظرًا لتقلّص المساحة الخضراء، لا سيّما تلك المشجّرة بالزيتون، إذا قيست بتطلّعات الناس. كما أنّ اتّساع رقعة البناء وتقلّص المساحات الزراعيّة قلّلا على نحوٍ ملحوظ من المناظر الخلّابة والخضراء، وشيئًا فشيئًا تلاشت العلاقة الوجوديّة مع الأرض بكلّ ما تحمله من معانٍ وجدانيّة ونفسيّة. هذه العوامل وغيرها دفعت الكثيرين إلى الزحف إلى القرى المجاورة حيث الفضاء أرحب وقطع الأراضي أكثر وفرة. وربّما هذه واحدة من الظواهر العكسيّة التي تميّز هذه المدينة، فالهجرة ليست إليها بل منها، نظرًا لخلوّها من بنية تحتيّة صُلبة ومن مُنشآت حقيقيّة تلبّي احتياجات مدينة، ثمّ هي لا توفّر فرص عمل كافية لأبنائها، فضلًا عن أنّ الكثير من نشاطاتها الاجتماعيّة فقدت صبغتها المحلّيّة وصارت تقام خارجها، وإذا أضفنا إلى كلّ ذلك عوامل إضافيّة (نحو: غياب الجمعيّات الأهليّة غير الحزبيّة؛ احتجاب المرأة عن كلّيّة المشهد الفحماويّ، وإذا ما ظهرت فللتجميل؛ اعتكاف النخب المثّقفة في صومعاتها الأكاديميّة؛ غياب الذّوق المعماريّ العامّ؛ العنف الذي بات يعصف ويزلزل في كلّ حيّ ومحلّة؛ سطوة العبريّة على وعي الناس وعلى لا وعيهم، في الشّارع والبيت والمؤسّسة)، نجد مدينة مرتعشة قد فقدت توازنها الاجتماعيّ والروحيّ. فهي، وإنْ كانت على موعد مع الحداثة في عهد سابق، أضحى هذا عنها بعيد المنال في الفترة الحاليّة، نظرًا لتعاقب المستعمِرين عليها، وبسبب ارتدائها هُويّة ليست تنبع من طبيعتها أو سليقتها. فالمدينة فقدت قدرتها على الإنتاج المحلّيّ لأنّها آخذة في الابتعاد عن ذاتها وعن أصالتها، أمّا في الفترات السابقة فقد كانت، إلى حدّ ما، متماهية مع ذاتها، حيث كانت قبل قيام إسرائيل تعتمد على الزراعة، وتملك مسطّح أراضٍ هائلًا، فضلاً عن تمسّكها بالأخلاق الفلّاحيّة التقليديّة التي أضفت جوًّا من الألفة الاجتماعيّة. بيد أنّها كانت قد فقدت غالبيّة مسطّحاتها الزراعيّة بُعَيْد إنشاء إسرائيل، وانتقلت إلى الحالة العمّاليّة التي خلقت انفصامًا اجتماعيًّا وثقافيًّا حادَّيْن، يُضاف إلى ذلك السيطرة الدينيّة للحركة الإسلاميّة، وسعيها الدؤوب لفرض هُويّة قسريّة على المدينة. كلّ هذه العوامل حالت دون تطوّرها إلى مدينة عصريّة، فهي أشبه ما تكون بمسرح للتجريب والتهجين يجعل أمر تصنيفها عسيرًا، فلا هي مدينة ولا هي قرية، أمّا فضاؤها فأقرب إلى فضاء المخيّم. وإن قارنّاها مع قرية مجاورة لها كقرية معاوية، وجدنا هذه الأخيرةَ تشهد نَفَسًا إنتاجيًّا متزايدًا يعتمد على تنشيط الزراعة المحلّيّة، كتربية المواشي، وصناعة الأجبان ومشتقّات الحليب، وتربية النحل وزراعة الزيتون؛ وذلك كمصادر رزق قلّلت كثيرًا من التبعيّة للمستعمِر ولإملاءاته الظاهرة والخفيّة.
إجمالاً لكلّ ما تقدّم، نقول إنّ أمّ الفحم قد انتقلت من بلدة قادرة على إنتاج ما هو روحيّ ومادّيّ إلى مدينة طابعها العامّ استهلاكيّ، غالبيّة ما يبدو منها من مظاهر لا يعبّر عن هُويّة راسخة أو رؤية حضاريّة واضحة، فهي تكاد تعيش حالة من القطيعة مع ماضيها الريفيّ، وهذا قد يكون من نتائج العلاقة مع المستعمِر الذي يسعى جاهدًا، وبطرق شتّى، إلى إفراغ الثقافة المحلّيّة من مضمونها التراثّي بغية زعزعة المرتكزات التي تقف عليها الهُويّة الفلسطينيّة. وحين أطلّت الحركة الإسلاميّة على المشهد الفلسطينيّ، في أواخر السبعينيّات، كانت مسيرة التجهيل هذه قد بلغت مداها، فاستغلّت الحركةُ الفراغَ الثقافيّ الذي خلّفته العلاقة مع المستعمِر، والفشلَ الذريع الذي مُنِيَتْ به الحركات الوطنيّة، ولا سيّما في تثبيت هُويّة عربيّة؛ فعملت على صياغة هُويّة لا تشكّل نتيجة لأيّ تفاعل مع الواقع الـمَعيش، وإنّما لتفاعل مع واقع غيبيّ هشّ وغرائبيّ. فالماضي الذي ترتكز عليه الحركة الإسلاميّة في صياغة هُويّتها هو الماضي البعيد، أي "السلف الصالح"، وهو -وإنْ كان جزءًا من الموروث الإسلاميّ- انتقائيّ، مبتور ومشوّه، شخصيّاته مثاليّة لا تاريخيّة، وهو مُعَدّ أساسًا من أجل التعبئة الأيديولوجيّة. فضلاً عن كلّ ذلك، إنّ خطاب الحركة لا يخلو من نبرة إقصائيّة فيها تحييد للكثير من الفئات والشرائح الفحماويّة. وتبعًا لذلك، فإنّ وعي الفحماويّ المنتسب إلى صفوف الحركة الإسلاميّة صار مشبعًا بالغيبيّات، فتراه يعجز عن فهم الواقع إلّا من خلال هذه الرؤية التي تَـحُول دون تعاطيه السليم مع الواقع اليوميّ. ويصل الحدّ بهذه الرؤية إلى تصوير الفترة التي سبقت ظهور الحركة الإسلاميّة في أمّ الفحم بأنّها شكل من أشكال الجاهليّة، بينما الحركة الإسلاميّة هي "النور" الذي بدّد هذا الجهل، فلا نعجب إذا وجدنا أنّ اسم المدينة في أدبيّات الحركة، وفي لغة التخاطب اليوميّ بين أبنائها، هو "أمّ النور" لا "أمّ الفحم". فالمدينة معزولة عن تاريخها القريب وعن تراثها الحقيقيّ البعيد، وتعيش مزاجًا روحيًّا مرتبكًا بين الأرضيّ والسماويّ، أو بين الدنيويّ والدينيّ، ناهيك عن الممارسات اليوميّة للمستعمِر التي تفرغ مفهوم "المواطنة" من مضمونه، وتصرف النظر عن مجرّد التعويل عليه في واقع مستقبليّ. للأسباب المذكورة مجتمعةً، فإنّ هذه المدينة لا تنتج معرفة عن ذاتها، إذ هي لا تعيش وضعًا طبيعيًّا، بل جُلّ ما يُنتج فيها هو ترديد لشعارات دينيّة مستهلَكة، أو التغنّي بمقولات وطنيّة ممجوجة.
[يعاد نشرها ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين جدلية و"مدى الكرمل".]